أدار المجلس العسكري الحياة السياسية في مصر في المرحلة الانتقالية بأوصاف تراوح بين الارتباك وربما التآمر على الثورة والوطن. غير أنّه أظهر حنكة بالغة في الحفاظ على النظام ومصالحه، وهو في القلب منها. فقد استطاع أن يهندس خريطة القوى السياسية والأساس القانوني لها، من خلال الإعلانات الدستورية المتتابعة، من دون أن تطاوله تهم التزييف والتزوير. وفي الانتخابات الرئاسية تجلت الطريقة التي رسم بها العسكر المشهد في الفترة الانتقالية، فقد كانت اللمسة الأخيرة على اللوحة التي هي شكل نظام الحكم وقواعد لعبه الرئيسية.
وفقاً لما صرح به المستشار فاروق سلطان ولجنته القضائية، خرج الفريق أحمد شفيق مرشح النظام خاسراً بفارق ضئيل عن مرشح الجماعة الدكتور محمد مرسي. غير أنّ الخاسر الأكبر من هذه النتيجة هو «القوى الثورية». والمصطلح رغم «هلاميته» يشير إلى القوى التي فجرت وحملت الثورة ومطالبها منذ «25 يناير» حتى اليوم، وهي في التصنيف السياسي متمايزة عن جماعة الإخوان وحزبها، وبالطبع هي مناوئة للنظام التي أسقطت رأسه، مبارك، ثم عارضت سياسات بديله المجلس العسكري. خسرت هذه القوى كل المعارك السياسية التي خاضتها، بدءاً من الاستفتاء على التعديلات الدستورية، مروراً بالانتخابات التشريعية، وأخيراً الانتخابات الرئاسية. واتضحت خسارتها في المعركة الأخيرة بعد فشل مرشحيها، وهم كثر في التأهل للجولة الثانية من الانتخابات. وعلى طريقة المثل الأميركي «إذا لم تستطع هزيمتهم، فالحق بهم»، رأى جانب من هذه القوى التي تراوح بين اليمين واليسار أن يؤيد مرشح الجماعة، باعتبار أنّ هذا نصف العمى المستحب عن العمى كله، وهو أحمد شفيق. فيما رأى جانب آخر أنّ المقاطعة أو إبطال الأصوات هو التعبير الأفضل عن موقف قوى الثورة الرافض لحكم العسكر والإخوان. في الأيام السابقة على الإعلان الرسمي لنتيجة الانتخابات، ومع الإعلان السابق لأوانه عن فوز مرسي بالجولة الثانية، سادت بين هذه القوى نشوة نصر لم تتحقق، وإن ساهمت فيه بنصيب، غير أنه في النهاية لن يكون في مصلحتها.
قد يكون مستقبل الرئاسة في مصر كحال البرلمان الذي سيطر عليه الإخوان والسلفيون تحت حكم العسكر، والذي طاوله قرار الحل أخيراً؛ إذ جرت الانتخابات في الحالتين بلا أساس دستوري واضح، وتحت وصاية العسكر وإشرافهم، ثم وقع في التخبط والارتباك وعدم وضوح الصلاحيات. كذلك ثارت تحت قبته مناقشات جادة تخللتها مهازل نوابه وفضائحهم الحقيقية منها والمفبركة. فلم يكن هذا البرلمان بأي شكل من الأشكال برلمان الثورة. وهكذا سيكون حال مؤسسة الرئاسة وساكنها إخواني: هي بلا صلاحيات واضحة، بل مهددة الوجود مع الإعلان الدستوري المكمل الذي يشرعن من قبضة العسكر على الحكم بمؤسساته المختلفة. وإزاء هذا لن يكون أمام مرسي في الحكم إلا أن يرتبك أو أن يتخبط، غير أنّه في كلّ الأحوال لن يصطدم بالعسكر.
لن يصطدم الرئيس الإخواني بالعسكر، فالجماعة غير صدامية حتى في إصلاحيتها، إذ إنّ حالة من المهداوية قد أصابت الجماعة المعتادة على البراغماتية السياسية عبر تاريخها الطويل، حتى إنّها التصقت بنظام الحكم وأفادت من قربها وصلاتها به، كما استفادت من خصامها معه واضطهاده لها. حالة المهداوية هذه التي أصابت الإخوان بعد الثورة وعُبِّر عنها في الحديث عن التمكين، جعلتها تتمسك بأي سبيل تضعها في مؤسسات الدولة السياسية الحاكمة، ولو على حساب أيديولوجيتها، فضلاً عن الثورة، فلم يصطدم برلمان الإخوان بالعسكر، كما لن يصطدم رئيسهم بهم. ومن هنا تأتي خسارة الثورة وقواها، فلن نتوقع أن صداماً سيحصل في ما يتعلق بالتحول نحو الديموقراطية الكاملة؛ إذ إنّ ذلك سيستدعي الحديث عن العسكر وصلاحياتهم ووجود دعم في المؤسسات واقتصادهم وما دون ذلك وغيره، أو في ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، وخاصة أنّ الجماعة تشابكت خيوط قاعدتها الاقتصادية مع شبكات النظام ورجال أعمالهم وسياساته الليبرالية، أو في ما يتعلق بالاستقلال الوطني. فحديث الإخوان عن العلاقة بالأميركيين وكامب ديفيد واضح من البداية.
اللوحة التي رسمها العسكر أحالت الثورة إلى انقلاب عسكري غير سافر ومتعدد الأدوات، فهو بقوة السلاح وحكم القضاء وترتيبات السياسة، وهو انقلاب طويل المدى استغرق إعداده عاماً ونصف عام. انقلاب يتجنب الحالة الجزائرية الدموية في التسعينيات بعد أن صفّى مراكز الثورة أو احتواها. وهو يقارب حالة انقلاب العسكر الأتراك في 1980، الذين انقلبوا على النظام الديموقراطي، وظلوا في السلطة لعامين قاموا فيها بتصفية المراكز المناوئة للنظام، ثم أعدوا دستوراً ليبرالياً يناسب الساسة ومواد فوق دستورية تناسب وضعهم، ثم سلموا السلطة لرئيس وزراء من القوى القديمة نفسها، ورئيس وزراء ثم رئيس جمهورية ذي توجهات إسلامية، أي تورغوت أوزال. وبعد أن كنا نتحدث عن أنّ مصر على موعد مع نموذج تركي تقوده قوة تقدمية على غرار العدالة والتنمية وعبد الله غول ورجب طيب أردوغان، الآن مصر تستعيد الحالة التركية التي فارقها الأتراك منذ 30 عاماً وسيقودنا فيها أشباه كينان إيفرين وأوزال، حيث لا صدام بين الساسة والعسكر، بعد أن تعثرت الثورة أو أجهضت وفقدت قواها بوصلة الوجهة الصحيحة.
يعزز فرضية انتفاء الصدام أنّ الرئيس الجديد لا يملك من القوة والقدرة على الفعل الذاتي أكثر مما تملكه جماعته التي سرعان ما أعلنت انتهاء عضويته فيها وفي حزبها، فهو سيتصرف وفقاً لما ينتهي إليه التدافع التفاوضي بين الجماعة والعسكر. غير أنّ الجماعة مع خسارتها لما كسبته من مؤسسات وشرعية وشعبية، لجأت إلى القوى السياسية المدنية الأخرى، وهو ما أضاف للوحة الحالية صورة الميدان المعتصم حتى تحقيق المطالب المتعلقة بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل، وقرار القبضة القضائية للعسكر. أي إنّ الجماعة تضع قدمين: واحدة في ميدان الثورة والأخرى في ميدان السياسة، ومن واقع سلوكها وتاريخها وعجز القوى المدنية وتآكل حالة الثورة، ستغلب اعتبارات السياسة على مطالب الثورة حتى لو استمر خطابها. وقد يكون على الجميع أن يتيقن أنّ نصف الكتلة التصويتية قد اختار النظام واستمراره، وبالتالي لن يكون لأحد في المستقبل أن يتحدث عن الشعب واعتباره ممثله الأوحد، بعدما أظهرت الانتخابات بجولتيها أنّ خيارات المصريين ومصالحهم أعقد بكثير من بلاغة الثورة وأكاذيب النظام.
[نشر هذا المقال بالإتفاق مع الكاتب عن جريدة "الأخبار" اللبنانية.]